كانوا ثلاثة، يحملُ كلّ واحد منهم العالم في داخله، لو أنه سرد عليكَ قصص الطفولة والشّباب، لو أنه حدثك عن التجارب التي مرّ بها، لو أنه أخبرك عن كلّ الصعاب التي واجهها، الأشخاص الذين قابلهم، الأماكن التي زارها، لما إستطاعت الأيّام القادمة أن تكفي لتدوّن أحاديث الماضي بدقّة، فكلّ شخص منّا وإن كان فرداً واحداً في هذا الكون الفسيح، إلا أنه يحمل الكون داخله بطريقة أو بأخرى، بالتجارب والمعارف، بالخبرات والعلوم، بالأحلام والأوهام، بالرغبات والتطلعات، وهكذا كان الثلاثة حين دخلوا الغار ليبيتوا فيه، فأطبقت عليهم صخرة ضخمة!
كان وقع الأمر على قلوبهم وكأنه الصّاعقة، وكأنهم رأوا الموت بعيونهم، وشعروا به أكثر ما يكون اقتراباً منهم، وبدأ شيء من اليأس يزحف إليهم، والخوف بجيوشه يدبّ في قلوبهم، ولمشاعر الخوف حين تغزو القلوب سطوة وعذاب قد تفوق الواقع وتنتصر في النيل من كل مستسلم لها، وكم من خوف قتل صاحبه، فكان كمن مات خوفاً من لدغة العقرب وقد كان بوسعه إحتواء إنتشار السّم في أنحاء جسده وإنقاذ حياته، لكنهم حين دخلوا الغار كان كلّ واحد منهم يحمل زوادة خاصّة لم يخبر بها أحداً، قد خبأها في دفاتر العمر بعناية، وإحتواها بقلبه كما يحتوي الجواهريّ أثمن ماسته، ليخفيها عن العيون، وهكذا إحتفظ كل واحد بخبيئة عمل صالح، كان الأغلى لأنه فعله بكلّ إخلاص ممكن، فعله إبتغاء وجه الله، لم يُذعه على الآخرين لأنه أدرك كم هو رائع أن يحتفظ المرء بشيء خاص بينه وبين ربّه، شيء قد لا يراه قيِّماً في حينها، لكنه في أي حال يغدو أسعد الناس حين يقوم به، لأنه يسمو به، يتجاوز الطين في إنسانيته، وتظهر بجلاء روح الله التي نفخها فيه...
فكان أن إقترح أحدهم أن يتوجهوا جميعاً لله بأن يزيح عنهم الغُمّة بصالح أعمالهم، وهكذا فكّر كل واحد، وبحث في أوراق العمر، فإنتقى الورقة الأجمل والأنقى والأصفى، إختار العمل الأخلص والأطيب، وسأل الله تعالى فيه النجاة، فكانت الصخرة تنزاح قليلاً كلما دعا واحد منهم بطيب عمله، حتى إنفرجت الصخرة تماماً عن الغار، وتحققت لهم النّجاة برحمة الله تعالى بهم، وبخيرٍ فعلوه وقدّموه يبتغون فيه وجه الله ورضوانه...
القصة رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غار في الجبل، فإنحطت على فَم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فَإدعوا الله بها لعله يفرجها، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صِبيَة صغار كنتُ أرعى عليهم، فإذا رحتُ عليهم فحلبتُ، بدأت بوالديّ أسقيهما قبل ولدي، وإنه ناء بي الشجر، فما أتيتُ حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحِلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك إبتغاء وجهك، فإفرج لنا فُرجة نرى منها السماء، ففرج الله لهم فُرجة حتى يرَوْن منها السماء، وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فطلبت إليها نفسها، فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار، فلقيتها بها، فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبد الله، اتق الله ولا تفتح الخاتم، فقمت عنها، اللهم فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك إبتغاء وجهك، فإفرج لنا منها، ففرج لهم فرجة، وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفَرَقِ أَرُزٍّ، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي، فعرضت عليه حقه، فتركه ورغب عنه، فلم أزل أزرعه، حتى جمعت منه بقراً وراعيها، فجاءني فقال: اتق الله ولا تظلمني، وأعطني حقي، فقلت: اذهب إلى ذلك البقر وراعيها، فقال: اتق الله ولا تهزأ بي، فقلت: إني لا أهزأ بك، فخذ ذلك البقر وراعيها، فأخذه فانطلق بها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك إبتغاء وجهك، فإفرج ما بقي، ففرج الله عنهم».
لم يدخل أولئك النفر الغار مفلسين، كانت في أعمارهم دائماً جوهرة ناصعة إستحقت أن يحملوها معهم لعظيم قيمتها إلى كل مكان، وقد حملوها في قلوبهم، فيما فشل غيرهم في الحصول على جوهرة مماثلة، رغم كون الفرصة متاحة في الحياة للجميع بأن يحصّلوها، عملوا، ومن ثمّ دعوا الله فأنجاهم بدعائهم، وقبل الدعاء أنقذهم بصلاح أعمالهم وإخلاصهم. فلنفتِّش في أعمارنا عن جوهرتنا الخاصة، وإن لم نجد فلنبدأ منذ اللحظة رحلة جمع الجواهر، فمن يدري لحظة يطبق عليه الغار في حياته، من بوسعه أن ينقذه ويعينه، وأيّة عناية سترشده، وأيّ شعاعٍ سينير طريقه، إن لم يكن نور الله سبحانه!!
الكاتب: نور الجندلي.
المصدر: موقع منبر الداعيات.